بقلم محرز الحفصي

تطوير نظام التّناظر للانتداب بالوظائف القياديّة بالإدارة العموميّة

pixabay_Waage

محرز الحفصي: أستاذ عرضي بكليّة الحقوق والعلوم السّياسيّة بتونس - جامعة تونس المنار.

يهدف نظام التّناظر المرتبط بتدريب المقبولين في المناظرات إلى انتقاء إطارات سامية قادرة على التّفكير السّليم والبناء الاستشرافي والتواصل الفعّال من أجل قيادة أفضل للسّياسات والبرامج والمشاريع والمصالح العمومية.

 وتندرج في هذا الإطار الرّهانات والتّحديات التي تهم الإدارة العموميّة وإسداء المرافق العمومية بشكل واقعي وملموس في أبعادها التنظيمية والترتيبية والاتصالية. فانتظارات المواطن وتطلعاته، تُعتبر محورا جوهريا ومفصليّا في رسم السّياسات وضبط الاستراتيجيّات وتحديد الاختيارات والأولويات وتخطيط البرامج وعرض المشاريع.

تكمن الغاية من الإدارة العمومية في محورين أساسيين. يتمثّل أوّلهما في المرفق العام، بينما يتمثّل الأمر الثاني في المال العام باعتبار كليهما أمانة تمّ تفويضها إلى الإدارة العمومية بشتى مصالحها ومختلف مستويات حوكمتها سواءً المركزيّة منها أو الإقليمية أو الجهوية أو المحليّة.

ويرتقي التفويض بهذا المعنى إلى اعتبار المفوّض له منتخبًا بكل ما تحمله العبارة من معاني تنسجم في أبعادها مع تحقيق الغايات المتعلقة بانتقاء أو اختيار الأفضل والأكفأ والأجدر في إدارة الشأن العام من خلال قيادة السياسات والبرامج والمشاريع والمصالح العمومية. الأمر الذي يقتضي تحديد آلية واحدة عامّة وموضوعية تنظّم عملية التنافس أو التناظر قصد الاضطلاع بهذه المسؤوليات.

بالرجوع إلى المعجم الفرنسي لاروس، يقصد بالمناظرة أنها "اختبار أو امتحان يتم من خلاله قبول عدد محدود من المترشحين وترتيبهم".

ويمكن تعريف المناظرة بأنها مجموعة من الضمانات ذات الطّابع الشّكلي والإجرائيّ والقيمي والجوهري تهدف إلى تقييم المترشحين، الذين تستجيب ترشحاتهم إلى الشروط المطلوبة والإجراءات المحددة، خصوصا فيما يتصل بالقدرات والمهارات المعرفية والاتصالية والسلوكية بناء على القيم والمبادئ المتمثلة وتكافؤ الفرص والحياد والموضوعية والنزاهة والشفافية.

فالمناظرة ليست إلاّ سبيلا لضمان الشّفافية في اختيار من سيتولى إدارة الشأن العام وقيادة سياساته وبرامجه ومشاريعه. كما تبقى آلية تهدف إلى انتقاء الأفضل والأكفأ والأجدر لتقديم الخدمات العمومية للمواطن.

ويتأسّس الاعتماد على المناظرة في الإدارة العمومية سواءً كانت داخليّة أم خارجيّة، وسواءً تعلّقت بانتداب أو ترقية على مبادئ وقيم ترتبط خصوصًا بضمان النزاهة والحياد في كامل مسار تنظيمها وعلى مستوى مختلف مراحلها.

تشهد الكثير من الدول وجود عوامل سياسية وحزبيّة وإيديولوجيّة تسهم في تحديد مسار الانتداب بهذه الوظائف العليا على غرار الترابط بين الانتخابات التّشريعية والتّسمية في الوظائف القيادية بالإدارة العمومية خصوصًا في الأنظمة البرلمانية دون أيّ تقيّد بنظام التناظر. لكن لم تحل هذه الاختلافات دون وجود قواسم مشتركة تقوم على أساس القيم والمبادئ المذكورة في كل مسار التناظر، والذي يتفرّع إلى ثلاثة أطوار أساسية.

يتمثّل الطور الأول في المرحلة الإعداديّة للمناظرة أي قبل التّناظر، وهي المرحلة الأوليّة والضّروريّة لتعزيز ضمانات الشّفافيّة والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المترشحين. تشمل هذه الضمانات ضبط آليات تأمين النزاهة في عملية الإعداد للمناظرة من خلال التعهد بالتزامات موضوعية وتعاقديّة ذات بعد قانونيّ وأخلاقيّ.

ويشمل مفهوم النزاهة في هذا الإطار تحديد المستوى العلمّي والأخلاقيّ والسلوكيّ للمترشحين، وكذلك تحديد الأشخاص الموكول لهم تنظيم المناظرة من حيث ضبط إجراءاتها، ومعايير التّقييم للترشحات إليها.

أمّا الطور الثاني، فيتجلّى في المرحلة التّنفيذية للمناظرة أي أثناء التناظر، وهو ما يتطلّب إرساء آليات ناجعة للتّثبت والرّقابة والتّدقيق في مدى توفر الموجبات المشار إليها آنفا.

ويندرج الطور الثالث في المرحلة التقييمية للمناظرة أي بعد التناظر. وهي المرحلة التي ترتبط بعملية التقييم والتقدير كي يكون مسارا متكاملا للتطوير والتحسين والتجديد دائما بغاية الارتقاء بالأداء العمومي وتحسين مرافقه وتحقيق تطلّعات المستفيدين من الخدمات الإداريّة.

ومن هنا تبرز أهمية ربط منظومة التناظر بضبط الهياكل العمومية سواء المركزيّة أو الجهوية أو المحلية أو المؤسسات والمنشآت العمومية لحاجياتها الحقيقيّة والمناسبة من موارد بشرية وفق رؤيتها ومخططاتها وبرامجها التقديرية وذلك في إطار منهج تقييمي للموارد البشرية ولأداء هذه الهياكل بشكل يضمن معه التناسب بين حاجة المرفق أو المصلحة أو المشروع أو البرنامج العمومي المعني والموارد البشرية التي تحقّق أفضل أداء.

ويقوم تميز هذا الأداء بالأفضليّة على قياس مدى قدرة تأثير الموارد البشرية الموجودة أو المفترض اعتمادها على جودة الخدمات العمومية من جهة، وعلى قياس كلفة تطوير الكفاءات البشرية وفقا لمناهج تقييم الكفاءات وتحديد البرامج التّدريبية من جهة أخرى.

فما هي سبل تحقيق هذه الضّمانات القانونية من خلال تطوير مسار التناظر للانتداب بالوظائف القيادية بالإدارة العمومية؟

إجابةً عن هذه الإشكاليّة المطروحة، يمكن القول بتحقّق الضّمانات القانونيّة من خلال تطوير مسار التناظر تنظيميًّا (الجزء الأوّل)، ووظيفيًّا (الجزء الثاني).

الجزء الأول: تطوير مسار التّناظر تنظيميّا

يقتضي نظام التناظر تطويرا يتم اعتماده بصفة تدريجية ويهدف بالأساس إلى تدعيم سبل تكريس مبادئ وقيم النزاهة والشفافية والحياد والنجاعة وآليات تجسيدها بصفة دائمة وموضوعية. وهو ما يتجلى من خلال تكريس حقّ التّرشح دون تمييز (الفقرة الأولى)، وتأمين نظام مستوفي الشّروط طيلة مسار تنظيم المناظرة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تكريس حق الترشح دون تمييز

يمكن تقديم الدخول إلى المرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة مثالا عن تنظيم التناظر.

تضبط أحكام الفصل الأول (جديد) من قرار الوزير الأول المؤرخ في 7 أوت 2007 المتعلّق بضبط الشهادات الوطنية المستوجبة لمناظرات الدخول إلى مراحل التكوين بالمدرسة الوطنية للإدارة كما تم تنقيحه وإتمامه بقرار الوزير الأول المؤرخ في 1 مارس 2010 وقرار رئيس الحكومة المؤرخ في 4 سبتمبر 2012 الشهادات المستوجبة للترشح إلى مناظرة الدخول إلى المرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة كما يلي:

- شهادات الماجستير الوطنيّة على الأقل في العلوم ذات الصّبغة الاقتصاديّة أو التصرف كما تم تعريفها بالنصوص الجاري بها العمل أو الشهادات المعادلة لها،

- شهادات الماجستير الوطنيّة على الأقل في العلوم ذات الصّبغة القانونية أو السّياسية كما تم تعريفها بالنصوص الجاري بها العمل أو الشهادات المعادلة لها،

- الشهادات الوطنية للمهندس كما تم تعريفها بالنصوص الجاري بها العمل أو الشهادات المعادلة لها.

وقد تم تحديد 5 اختصاصات لحاملي الشهادات الوطنية لمهندس على النحور التالي: الهندسة المدنية- الإعلامية-الاحصاء وتحليل المعلومات- الاتصالات والهندسة المعمارية بالنسبة إلى مناظرة الدخول إلى المرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة بعنوان سنة 2023 وذلك بمقتضى أحكام الفصل الأول من قرار من رئيس الحكومة المؤرخ في 5 مارس 2024 المتعلق بفتح هذه المناظرة.

ولأن التناظر يهدف بالأساس إلى انتقاء الأجدر والأفضل وفق محدّدات القدرة على التّفكير السليم والبنّاء والاستشرافيّ من أجل قيادة أفضل للسياسات والبرامج والمشاريع العمومية باعتماد مسارات تكون متجددة ومتوازنة سواء في بعدها الاستراتيجي أو العملي والتطبيقي، فإن التساؤل يصبح مشروعا حول مدى التناسب والجدوى في حصر نظام التّناظر على الاختصاصات القانونية والاقتصادية والهندسية؟

وعلى أي أساس تم إقصاء بقيّة الاختصاصات كالتاريخ والجغرافيا والآداب والفنون والطّب والرّياضة طالما أن الغاية ليست في اختيار من يحسن إعادة ما تم تلقيه من معارف ومكتسبات بقدر ما هي ترمي إلى انتقاء المهارة الجديرة بالنّظر إلى جدية وسلامة وفعالية منوال التّفكير وأسلوب التخاطب وطريقة التعامل وقدرة التحليل والتأليف والقيادة وفق المنهج الأنسب والآليات الأدق والتدبير الذي يتسم بالنجاعة ويفرز معه مردودية على مستوى الأداء؟

وما مدى اعتبار بعض الاختصاصات مندرجة في إطار الاختصاصات الاقتصادية؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار بعض الاختصاصات مندرجة في إطار العلوم المرتبطة بأوجه التصرف؟

يمكن أن تكمن الإجابة في تأويل عبارة ذات الصّبغة الاقتصاديّة التي وردت فيما يخص الشهادات العلمية المطلوبة والتي قد تًؤخذ على إطلاقها وهو ما يحول دون إقصاء بعض المترشّحين طالما كان اختصاصهم ذا صبغة اقتصاديّة وطالما لا يوجد نصّ خاصّ يضبط قائمة الشّهادات العلمية ذات الصبغة الاقتصادية أو قائمة حصرية على مستوى الوزارة المكلفة بالتعليم العالي تضبط هذه الأصناف.

وبالتالي، فإنه من غير الوجيه إقصاء المتحصلين على شهادة الهندسة الفلاحيّة على سبيل المثال نظرًا إلى اتّسام هذا الاختصاص بأبعاد اقتصادية وإلى اعتباره من المحركات الجوهرية للسياسة العمومية الفلاحية في حدّ ذاتها.

فمن الأكيد أنّ التنظيم الهيكليّ (الوزارات المعنية والمندوبيات الجهويّة وغيرها من المؤسسات ذات الصلة) وتنفيذ السياسة العمومية في مجال الفلاحة يحتاجان إلى كفاءات قياديّة في مجال الهندسة الفلاحية الحالية والاستشرافيّة.

وبالتالي يرتقي الاهتمام وفق هذا التمشي الذي من شأنه الاستجابة إلى اعتبارات علمية وواقعية إلى إعادة النظر في المنظومة الحالية باعتبار مزايا توسيع فتح مجال الترشح وحق التناظر إلى كافة حاملي شهادة الماجيستير أو لشهادة معادلة في جميع الاختصاصات دون إقصاء غير مبرر وغير موضوعي.

الفقرة الثانية: تأمين نظام مستوفي الشّروط طيلة مسار تنظيم المناظرة

تتمثّل المقاصد الأساسيّة من تكليف لجنة تشرف على المناظرة في مختلف مراحلها القانونيّة والقيمية في اعتبارها الضمان الأساسيّ لحقّ المترشحين في اجتياز المناظرات في مختلف مراحلها سواء التنظيمية أو التقييمية من خلال الحرص على تكريس مبدئي المساواة وتكافؤ الفرص.

ولاحترام مجمل هذه المبادئ عند قيامها بمهامها، وجب أن تتميّز لجنة المناظرة من حيث تركيبتها (أ)، وصلاحياتها (ب).

أ-تركيبة لجنة المناظرة

تقتصر أحكام الباب الثالث المتصل بتعيين لجنة المناظرة وضبط تركيبتها وصلاحياتها من الأمر عدد 1938 لسنة 2007 المؤرخ في 30 جويلية 2007 مثلما تم تنقيحه وإتمامه بالأمر عدد 3465 لسنة 2010 المؤرخ في 28 ديسمبر 2010 والأمر الحكومي عـدد 657 لسنة 2019 المؤرخ في 5 أوت 2019 وخاصة في فصله 10 على التنصيص بأنه يتم تعيين أعضاء لجنة المناظرة بقرار من الوزير الأول باقتراح من مدير المدرسة الوطنية للإدارة.

لذلك يكون من الضروريّ اعتماد النزاهة والشفافية والكفاءة عند اختيار الأعضاء من خلال أمرين اثنين.

يتمثّل الأمر الأوّل في تكريس فردية الترّكيبة قصد ضمان الحد الأدنى من الأريحية والتناسب والنجاعة في نظام التواصل واتخاذ القرار وخاصة أثناء التقييم الشفاهي. بينما يتمثّل الأمر الثاني في محدوديّة العدد بحيث لا يتجاوز الخمس أعضاء. ومن شأن هذا النظام فرديّ التّركيبة ومحدود العدد أن يمنح تموضعا واضحا لرئاسة اللجنة وأعضائها من جهة، وأن يسمح بتقييم جدي وتقدير سليم للكفاءات والمؤهلات دون ضوضاء الحضور المكثف وتكاثر الآراء والمواقف.

ب-صلاحيات لجنة المناظرة

تخضع إدارة كل محاور ومراحل مسار التناظر بصفة موضوعية وواضحة إلى مسؤولية لجنة المناظرة. وتكون هذه المسؤولية بصفة فردية وتضامنية في نفس الوقت.

فمساهمة كلّ عضو من أعضاء اللّجنة لا بد أن تكون بشكل مباشر وشخصيّ، بينما تُتّخذ مختلف القرارات والتوصيات بشكل جماعيّ ومشترك من قبل جميع أعضاء اللجنة وباسم اللجنة في كلّ ما يتعلّق بفرز الترشحات وتحديد المترشحين المقبولين والنّظر في مآل تقدير المؤهلات البدنيّة والنفسية المشترطة في المترشحين، وضبط مواضيع الاختبارات الكتابية والشفاهية، واختيار المحاور الرّئيسية التي سيتم طرح المواضيع في إطارها وتحديد آليات التقييم في مختلف الاختبارات بما في ذلك عناصر إصلاح الاختبارات ومقاييس التقييم واجبة التّطبيق على كافة المترشحين، والإعلان في الأخير عن النّتائج االنهّائية.

الجزء الثاني: تطوير مسار التّناظر وظيفيًّا

تظل الغاية من تنظيم التناظر انتقاء الأجدر والأحقّ بالانتداب، وهوما يتحقّق من خلال الانتقاء العادل والمناسب في نظام الاختبارات (الفقرة الأولى)، وفي اعتماد معايير التقييم (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: الانتقاء العادل والمناسب في نظام الاختبارات

تنص أحكام الفصل الثاني من قرار رئيس الحكومة المؤرخ في 5 أوت 2019 المتعلق بتنقيح القرار المؤرخ في 7 أوت 2007 الذي يضبط اختبارات مناظرات الدّخول إلى مراحل التكوين بالمدرسة الوطنية للإدارة على أن مناظرة الدّخول إلى المرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة "تشتمل على ثلاثة اختبارات كتابية للقبول الأولي في الاختصاص ذات الصّبغة القانونية أو الاقتصادية والتّصرف وفي الثّقافة العامّة حول المسائل السّياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الثقافيّة في العالم المعاصر وفي اللغة الإنجليزية من ناحية. واختبار شفاهي للقبول النهائيّ من ناحية أخرى يتمثل في عرض تليه مناقشة مع أعضاء لجنة المناظرة حول موضوع عام أو دراسة حالة".

ويمكن أن يُطرح السؤال في هذا الإطار حول كيفيّة التحقّق من الكفاءات والخبرات والمؤهلات المطلوبة لأنّ نظام التّناظر يهدف إلى رقابة معرفية للمكتسبات وإلى إيجاد الطرق الفضلى لتشخيص القدرات والطاقات المطلوبة باعتماد معايير الكفاءة والتناسب.

يكمن التطوير في هذا المجال باعتماد مقاربة من مرحلتين في تقييم الكفاءات والقدرات والمؤهلات والطاقات الفكرية والمعرفية والاتصاليّة والتّدريبية الضروريّة لقيادة مسار التّصرف العموميّ بشكل عام وسياسات وبرامج ومشاريع الإدارة العموميّة التي من شأنها أن تترجم الغايات المذكورة وتحقّق مبادئها.

تتمثل المرحلة الأولى من المقاربة في تنظيم اختبار كتابيّ موحّد وموضوعيّ لكافة المترشحين يتضمّن موضوعين يتم عرضهما عند إجراء المناظرة في زمنين منفصلين.

يهم الموضوع الأول المكتسبات والمعارف ودرجة الإلمام بالمسائل العامّة والجيوسياسية على أن يتم الطرح والتناول والبحث وفق الأبعاد الجيوستراتيجية والجيوسياسية والتاريخية والاتصالية والعلمية وذلك في مختلف النواحي سواءً الترّتيبية والنظاميّة أو الاستشرافية أو المفترضة نظريّا وتطبيقيًّا.

كما يتمّ التّطرّق إلى تناول مختلف عناصر البحث وتحديد نقاط الاستنباط والتجديد والابتكار محليّا أو اقليميّا أو عالميّا في شتى القطاعات الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والبيئية والتكنولوجية والاتصاليّة.

أمّا الموضوع الثاني، فيتعلّق بمجال الإدارة والسّياسات العموميّة بشكل عام بهدف استكشاف الأبعاد التفكيريّة والتحّليلية والابداعيّة لدى المترشح على أن يتم اعتبار المعطيات والبيانات ذات الصبغة الفنيّة والسّياسية والإدارية التي تهم السّياسة العموميّة المعنية.

وتطرح المرحلة الثانية من المقاربة المعتمدة في التّناظر اختبارًا شفاهيّا وجوبيّا للوقوف على ثقافة المترشّح في شتى المجالات ومدى تمكّنه من اللّغات عند الإجابة.

من حيث المجالات التي يتطرّق إليها الاختبار الشفاهي، فهي مجالات متعدّدة لتعلّقها بالتثبت والتّقييم والتّشخيص والتّدقيق للإلمام بطريقة وطاقات ومناهج التفكير لدى المترشّح من خلال اعتماد محدّدات ومعايير العمق والجدوى والموضوعيّة والوجاهة وطاقات التعبير خاصة من ناحية التحكم في التوقيت والتركيز وطاقات الاستنباط والتجديد والابتكار والخروج من الأطر المضبوطة قصد إيجاد الحلول وترتيبها وفق معايير ومؤشرات الأولوية والاهمية والجدوى والفعالية والانعكاسات.

على أن يتم بصفة موازية وذكية تقييم طريقة الحضور من ناحية الفطنة والإصغاء والتفاعل وطرق ومناهج الاختيار والتنظيم والتأليف للأفكار.

أما من حيث اللّغات المعتمدة من المترشح عند الإجابة، فينبغي أن تكون وجوبًا اللغة العربية واللغة الفرنسيّة واللغة الإنجليزية.

الفقرة الثانية: الجدارة والاستحقاق في معايير التّقييم

اقتضت أحكام الفصل 22 من الأمر عدد 78 لسنة 2004 المؤرخ في 14 جانفي 2004 المتعلق بمناظرات الدخول إلى مراحل التكوين بالمدرسة الوطنية للإدارة مثلما تم تنقيحه وإتمامه بالأمر عدد 1938 لسنة 2007 المؤرخ في 30 جويلية 2007 والأمر عدد 3465 لسنة 2010 المؤرخ في 28 ديسمبر 2010 والأمر الحكومي عـدد 657 لسنة 2019 المؤرخ في 5 أوت 2019، أنّه "يمنح لكل اختبار عــدد مرقــــم يتراوح بين الصفر (0) والعشرين (20)".

كما نصّت أحكام الفصل 23 من الأمر ذاته على أنه يتم آليًّا رفض كل مترشح تحصل على عدد دون سبعة (7) من عشرين (20).

ويمكن إثارة ما تضمّنته أحكام هذين الفصلين من التساؤلات التي قد تكون مدعاة لمراجعتها سواء فيما يخص طبيعة نظام التقييم في حدّ ذاته (أ) أو في الضوارب المعتمدة (ب).

أ-طبيعة نظام التّقييم

إن المناهج التي يتم اعتمادها في تقدير أو تقييم النّتائج في المدارس التكوينيّة والجامعيّة بشكل عام متعددة وأهمها:

1. اعتماد الأعداد من 0 إلى 20 والضوارب من (1) إلى (4) أو أكثر

2. اعتماد النّسب الموزّعة وفق معايير التقييم إلى حدود مجموع 100 %

3. اعتماد سلم التّكييف من السيئ أو الرديء إلى المقبول والحسن والمتميز

وطالما أنّ الغايات التي تم تحديدها آنفا من خلال ضبط المقاصد الجوهرية للتناظر وللتكوين في حد ذاته وهما آليتان متلازمتان وغير منفصلتين لاتحاد موضوعهما في انتقاء الأجدر والأحقّ، يُمكن اللّجوء إلى حذف آلية العدد الإقصائيّ، التي وإن قد تفضي إلى انتقاء على أساس الاختصاص النّظري ّوالأكاديمي والمعرفي في القانون أو في الاقتصاد إلاّ انها تعتبر مجالا للتمييز على أساس وزن للمعارف والمكتسبات وتوزيع للمترشحين على أساس هذه الاختصاصات.

بيد أن الغاية تتمثل في تقييم القدرة البنّاءة والإبداعية في التّفكير والاختيار والاستشراف وفحص أسلوب القراءة والإدراك والتحليل الذي تم اعتماده والمنهجية التي تمّ الركون إليها وهي المحاور الرّئيسيّة والركائز الجوهرية لعملية الانتقاء.

كما يمكن الاعتماد على معيار تقييم يكون عدديّا فيما يتعلّق بالاختبارات الكتابيّة للمكتسبات والمعارف ودرجة الإلمام بالمسائل العامة والجيوسياسية ونوعيّا بالنسبة إلى الاختبارات الكتابية التي تتصل بمجال الإدارة والسياسات العمومية. أما في الاختبار الشفاهي، فيكون مستحسنًا الاعتماد على النّسب المائوية.

حيث يتوجّب اعتماد منهج ديناميكي لتقدير المكتسبات والطاقات والقدرات والمؤهلات والخبرات ذات الصبغة المعرفيّة والاتّصالية والبحثيّة والاستكشافية التي من شأنها أن تقدّر الكيفية والمدى ودرجة التناسب لمختلف هذه العناصر.

ب-الضوارب المعتمدة في التّقييم

من الأنسب التّخلي عن اعتماد معيار الضوارب لعدم موضوعيّته، واستبداله بمناهج أكاديميّة تقوم على مقاربة توزيع الاختصاصات وتحديد مجال التّخصص على غرار ما يتم اعتماده في كليات الحقوق والاقتصاد عندما يتم تمييز المواد ذات الصبغة القانونية أو الاقتصادية بحسب مجال الاختصاص على خلاف المجالات والمواد الأخرى التي لا تدرج في سلم الاعتبارات التّخصصية كالرياضة واللّغات لأنّها لا تحظى بنفس الأهميّة.

يظل التناظر بصورة عامة يمثل آلية وليس غاية في حد ذاته. ولعل هذا الاعتبار قد يرتقي إلى التأكيد من خلال دراستنا لنظام المناظرة المتعلقة بالدخول إلى المرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة، أنّ الغاية من الناحية المبدئية تتصل بانتقاء الأفضل والأجدر وفق المهارات التي تتميز بالوجاهة في التفكير والتناسب في الاختيار والفاعلية والاستباق في التطبيق.

وقد تم من خلال هذه الدراسة تحديد بعض العناصر العملية لتحقيق تناغم نظام التناظر من الناحية التنظيمية والإجرائية والتقييمية مع هذه المقاصد ومحاولة إيجاد السبل الكفيلة بتأمين الانسجام معها.

فالاعتماد على مسار متكامل للتناظر وفق هذا التمشي من الناحية التنظيمية والوظيفية وخاصة في أبعاده القيمية يتم من خلال تأكيد حق التناظر دون تمييز أو إقصاء وتحديد الضمانات الكفيلة بالتقييم العادل والشفاف للقدرات والمؤهلات عبر ضبط معايير تكون أنسب وأكثر ديناميكية في استجابتها إلى مميزات الجدارة والتفاني والتميز.

والتقييم على هذا الأساس ووفق هذه المنطلقات ليس مرتبطا فحسب بالمكتسبات المعرفية والأكاديمية بل إنه يرتقي إلى تقدير للمؤهلات والقدرات والمهارات بصفة واقعية وكذلك استشرافية تتأسس على تقدير مدى جدارتها في تحمل مسؤولية وأمانة التصرف في الشأن العام وبالتالي التمكّن من القيادة السليمة والناجعة للسياسات والبرامج والمشاريع العمومية وفق مؤشرات ومقاييس النزاهة والمراجعة الدائمة للمناهج والمخططات والمسارات.

كما أن مراجعة نظام التناظر لا تنحصر زمنيا ولا وظيفيا في المراحل المرتبطة بالاختبارات فهي تحتاج إلى اعتبار لمناول القياس المتواصل ومناهج التطوير المستدامة ومقاربة التحسين المستمر وبالتالي إلى رؤية تتميز بالتأقلم والاستنباط والاستباق خاصة في ظل المتغيرات الجيوسياسية ذات الصبغة الاقتصادية والمالية والبيئية والاجتماعية والتي لا تهم الإدارة العمومية فحسب بل من شأنها ان ترتبط بمختلف القطاعات والأبعاد والمجالات.