بقلم منير الفرشيشي

القوة الثبوتية للحق المرسم

Pixabay-Paragraph

منير الفرشيشي: المدير العام لمركز الدراسات القانونية والقضائية

يعتبر الفصل 305 م.ح.ع الفصل 305 م.ح.ع (نقح بالقانون عدد 46 لسنة 1992 المؤرخ في 4 ماي 1992) : "كل حق عيني لا يتكون إلا بترسيمه بالسجل العقاري وإبتداء من تاريخ ذلك الترسيم. وإبطال الترسيم لا يمكن أن يعارض به الغير الذي اكتسب حقوقا على العقار عن حسن نية واعتمـادا على الترسيمات الواردة بالسجل". العمود الفقري لمبدأ الشهر العيني ومبدأ الشهر العقاري في القانون التونسي، هذا الفصل يتعلق بأهم مبدأ من مبادئ الشهر العيني، وهو مبدأ الأثر المنشئ للترسيم.

 

يبدو أن المشرع التونسي لم يتبين هذا المبدأ عند تحرير مجلة الحقوق العينية وكان قد اختار في ذلك الإبقاء على حجية العقد المبرم بين الأطراف في سلطته على تفعيل العلاقة قانونيا شخصيا وعينيا، وأبقى بذلك على قوة سلطة الإرادة في التعاقد متخذا أصل المذاهب الفقهية والقانونية القديمة كالمدارس الرومانية والإسلامية وجعل من الترسيمات المدرجة بالسجل العقاري سوى حجية تلك الصكوك على الغير بحيث لا يصبح للعقد وجود لدى غير المتعاقدين إلا من تاريخ العلم به بموجب العملية الإشهارية، وطالما لم يتول المشتري إدراج عقده بالسجل العقاري يبقى معتبرا في حالة مراكنة منحصرة بينه وبن معاقده حتى يظهره للعموم بموجب الإشهار ومن ذلك التاريخ يبتدأ سريانه تجاه الغير.

هذا الاتجاه المعتمد من قبل المشرع التونسي قبل التحوير المجرى على الفصل 305 م.ح.ع وهكذا كانت صيغة هذا الفصل قبل التنقيح المجرى عليه سنة 1992 (305 م.ح.ع قديم : "كل حق لا يعارض به الغير إلا بترسيمه بإدارة الملكية العقارية وابتداء من تاريخ ذلك الترسيم").

هذا لا يعني أن المشرع التونسي لم يكرس مبدأ الأثر المنشئ للترسيم إلا سنة 1992، فقد شرّع له في عقد الحماية بموجب قانون خاص تولى العدول عنه مباشرة بعد صدور مجلة الحقوق العينية سنة 1965 " يراجع : - علي كحلون : "نظام السجل العقاري" مرجع سابق. - محمد كمال شرف الدين : "التطور التاريخي للنظام العقاري التونسي : التسجيل والإشهار"، مجلة القضاء والتشريع، العدد 9 نوفمبر 1987، ص. 21."

يثير الفصل 305 م.ح.ع في الحقيقة عدة تساؤلات وأدى إلى عدة تطبيقات مختلفة منه ما هو خطير على فهم المنظومة العقارية كاملة ومنها ما هو خطير على استقرار حقوق الأطراف المتعاملة على خلفية هذه المنظومة. هذه التساؤلات يمكن أن نصوغها في ثلاثة محاور أساسية.

المبحث الأول : مدى انطباق أحكام الفصل 305 م.ح.ج جديد :

بمعنى هل أن الأحكام الجديدة لهذا الفصل تهم كامل السجل العقاري وكامل الرسوم العقارية أم هناك تفصيل ضروري يؤدي إلى نسبية انطباق هذه الأحكام؟ وهل يؤدي ذلك إلى التساؤل هل أن النظام التونسي العيني يعتمد الأثر المنشئ للترسيم وعدل عن الأثر الاحتجاجي أم أنه يعتمد على النظامين معا ولكن بأي مقاييس؟

أنه ولفهم هذا الأمر يجب الرجوع إلى التطور التاريخي الذي عرفه تشريع هذا الفصل والوقوف على ملخص شرح أسبابه.

لابد أن نعلم أولا أن الأحكام الجديدة لهذا الفصل قد أحدثها المشرع بعد الوقوف على مساوئ النظام التونسي للشهر العيني الذي اعتمده في بداياته على الأثر الاحتجاجي للترسيمات الذي أدى فيما أدى إليه إلى بروز ظاهرة الرسوم المجمدة، فرأى المشرع أن الحل الأمثل لإيقاف هذه الظاهرة هو إجبار المتعاملين على السجل العقاري على إدراج صكوكهم بالشهر العيني ليصبح الترسيم أداة لنقل الملكية وليس الاحتجاج بها فقط.

وقد شمل هذا التحوير الوارد على الفصل 305 م.ح.ع، وهو التحوير الأصلي تحويرات نوعية لكنها ضرورية لضمان حسن انطباقه، فكان إلى جانب القانون عدد 46 لسنة 1992 المؤرخ في 4 ماي 1992 المتعلق بتنقيح الفصل 305 ظهور القانون عدد 47 لسنة 1992 المتعلق بتنقيح الفصل 581 م.إ.ع والقانون عدد 48 لسنة 1992 المتعلق بتنقيح الفصل 204 م.أ.ش، وعلى ذلك الأساس تحقق بذلك تناغم وتمشي تشريعي بين سائر الفصول القانونية، غير أن المشرع واقتناعا منه من عدم إمكانية تطبيق هذا المبدأ إبان صدوره فوريا على السجل العقاري نظرا إلى أن أغلب الرسوم العقارية كانت تشكو عدة نقائص وكان أصحاب الحقوق غير قارين على توفيرها، أرجأ العمل بهذه الأحكام إلى حين رفع جميع صعوبات الترسيم وبالتالي تحيين كامل الرسوم، ولقد ضرب في ذلك أجل ثلاث سنوات كفاية لإتمام ذلك، ونشأت بنفس المناسبة لجان جهوية إدارية تحت إشراف وزارة الداخلية (باعتبار أن كل لجنة جهوية يترأسها والي الجهة) عهدت إليها مهمة رفع الجمود على الرسوم العقارية حتى يتسنى بعد ذلك اعتماد مبدأ الأثر المنشئ للترسيم، ولكن لم تتمكن اللجان الجهوية لتحيين الرسوم من القيام بمهامها في ثلاث مرات متتالية من 1992 إلى 1995 إلى 1998 ثم إلى سنة 2001 حين غير المشرع من أسلوبه في تجاوز جمود الرسوم وأولاه مباشرة للمحكمة العقارية.

غير أن الإشكال بقي مطروحا في خصوص إمكانية إقرار العمل بالأثر المنشئ للترسيم من عدمه، هذا السؤال يفترض تساؤلا أولي لكنه ضروري، وهو هل أن القانون عدد 39 لسنة 1992 المؤرخ في 27 أفريل 1992 قد أصلح السجل العقاري من عدمه وهل أن الآليات التي تضمنها قد حينت الرسوم العقاري أم لا؟

هو في الحقيقة سؤال قد يطرح بشكل معمق لدى أعضاء اللجنة القانونية المكلفة بإعداد مشروع القانون عدد 34 لسنة 2001 المؤرخ في 10 أفريل 2001 ومن أعضائها وممثلي وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية في ذلك الوقت باعتبارها سلطة إشراف على إدارة الملكية العقارية، هذا التباحث أدى إلى اختلاف في وجهات النظر : فبينما رأت الوزارة أن اللجان الجهوية قد تمكنت من تسوية عدة وضعيات لعدة رسوم عقارية رأى أعضاء اللجنة عكس ذلك في أن ما قامت به اللجان الجهوية لا يعدو أن يكون سوى تسويات خاصة لبعض ملفات الترسيم دون التأكد من أن تلك التسويات قد أدت إلى تحيين الرسوم المتعلقة بها من عدمه ودون التأكد من إعادة وقوعها في الجمود من جديد من عدمه.

وكان على المشرع عندئذ أن يحسم المسألة، غير أن المشرع لم يكن دقيقا في تحديد موقفه من مسألة تحيين الرسوم من عدمه وبالتالي إدخال مفعول الأثر المنشئ للترسيم ذلك أنه من ناحية ألغى قانون 27 أفريل 1992 وعوضه بقانون 10 أفريل 2001 بمعنى أن أعمال التحيين لازالت متواصلة ثم تولى في نفس القانون أي قانون 10 أفري 2001 وتحديدا بالفصل الثالث منه اعتبار أن ما يستثنى من هذا القانون وهي الرسوم العقارية التي تم احداثها تنفيذا لأحكام التسجيل الصادرة بعد إجراء العمل بالقانون عدد 30 لسنة 1998 المؤرخ في 20 أفريل 1998 والمتعلق بالتمديد في مفعول الأحكام القانونية المرتبطة بتحيين الرسوم العقارية أولا وثانيا الرسوم العقارية التي تم تحيينها بمقتضى هذا قانون أي قانون 10 أفريل 2001، اعتبارا أن الرسوم العقارية بقيت غير محينة، وبالتالي تكون النية المنطقية لذلك أن الأثر المنشئ للترسيم لم يحل أجل دخوله حيز التنفيذ وهو أمر سيؤزم الوضعية ويجعل التشريع التونسي في إحراج.

لذلك رأى المشرع أنه ولئن كان مقتنعا بعدم إصلاح السجل العقاري، فإن هناك رسوما عقارية محينة تلقائيا وهي الرسوم الحديثة أي التي أنجزت تنفيذا لأحكام التسجيل بعد دخول قانون 20 أفريل 1998 حيز التنفيذ ورسوم أخرى سيتم تحينها وهي الصيغة اتي اتخذها المشرع صلب الفصل الثالث من قانون 10 أفريل 2001، وعليه يصبح بموجب هذا الاعتبار إمكانية تفعيل الأثر المنشئ للترسم جزئيا ممكنا من ناحية باعتبار وجود رسوم صحيحة تلقائيا وتدريجيا باعتبار وجود رسوم سيتم تحيينها، غير أن الأمر لم يكن على هذا النحو فالمشرع قد استبق نفسه في خصوص الفصل 3 من قانون 10 أفريل 2001 بقانون خول بمقتضاه الدخول التدريجي للأثر المنشئ للترسيم وهو القانون عدد 91 لسنة 2000 المؤرخ في 31 أكتوبر 2000، هذا القانون تضمن فصلا وحيدا مكن من تفعيل المفعول المنشئ للترسيم على بعض من الرسوم العقارية وهذه الرسوم هي : الرسوم العقارية المحدثة تنفيذا للأحكام الصادرة بالتسجيل ابتداء من دخول القانون عدد 30 لسنة 1998 المؤرخ في 20 أفريل 1998 المتعلق بالتمديد في مفعول الأحكام الانتقالية ... وكلك على الرسوم التي تم تحيينها.

وكما هو ملاحظ فإن المشرع قد استعمل نفس الصيغة المعتمدة صلب الفصل 3 من قانون التحيين، وعلى الرغم من هذا التناقض أو التضارب في الموقفين فإن القراءة التأليفية يجب أن تؤدي إلى وجود ثلاثة أنواع من الرسوم تعتبر محينة وليس نوعين كما هو من المفروض اعتباره وهي :

  •  الرسوم التي تم احداثها بموجب أحكام التسجيل بعد دخول القانون عدد 30 لسنة 1998 حيز التنفيذ.
  •  الرسوم العقارية التي تم تحيينها قبل صدور قانون 10 أفريل 2001.
  •  الرسوم العقارية التي سيتم تحيينها بموجب قانون 10 أفريل 2001.

هذه الرسوم فقط ما تنطبق عليها أحكام الفصل 305 م.ح.ع في صيغته الجديدة، أما باقي الرسوم العقارية فهي تبقى خاضعة لأحكام الفصل 305 م.ح.ع قديم، وعليه فإن الأثر المنشئ للترسيم بتطبيق الجزئي والتدريجي على الرسوم العقارية وهي مسألة أولية على المحاكم التأكد منها قبل تحديد النطاق القانوني المنطبق بمقتضى أحكام الفصل 305 المذكور القديم أو الحديث بحيث لا يجوز القول أن هذا الفصل قد تم إلغاؤه نهائيا ولا تجديده نهائيا.

المبحث الثاني : الدلالة القانونية للغير في المادة العقارية

إن المبدأ في نظام السجل العقاري هو السعي إلى حماية حقوق الغير، فهذا النظام الذي أساسه الشهر يرمي في نهاية الأمر إلى حماية حقوق الغير دون حقوق المتعاملين، فحقوق الأطراف ينظمها ويضبطها العقد أو الصك أما الترسيم أي شهر تلك الصكوك فإنما هو حماية لغير المتعاقدين، وهو ما بينه المشرع بصراحة ووضوح في أحكام الفصل 305 قديم وجديد أيضا، ولو أن الصيغة الجديدة قد أضافت خصوصية جديدة على مستوى العلاقة القانونية بين الأطراف وذلك بدون أن تنتفي عنها صبغتها الأولى، ومع ذلك فقد تعرض الفصل 305 م.ح.ع إلى صعوبة وغموض في تأويل أحكامه وخاصة منها تحديد مفهوم الغير في المادة العقارية.

لقد استعمل المشرع التونسي مصطلح "الغير" في عدة مواطن قانونية أهمها مجلة الالتزامات والعقود ومجلة الحقوق العينية، أي في مادة الالتزامات وفي مادة الملكية، فذكر المشرع صلب الفصل 240 م.إ.ع ما يلي : "لا يلزم العقد إلا العاقدين ولا ينجر منه للغير ضرر ولا نفع إلا في الصور التي نص عليها القانون" كما نص الفصل 241 م.إ.ع على "الالتزامات لا تجري أحكامها على المتعاقدين فقط بل تجري أيضا على ورثتهم وعلى من ترتب له حق منهم ما لم يصرح بخلاف ذلك أو ينتج عن طبيعة الالتزام بمقتضى العقد أو القانون لكن لا يلزم الورثة إلا بقدر إرثهم وعلى نسبة مناباتهم".

وما تجدر الإشارة إليه وملاحظته انطلاقا من قراءة هذين الفصلين أن المشرع في مادة الالتزامات أي في قواعد الحقوق الشخصية قد فرق بين الأطراف الملتزمة صرفا أو مباشرة والأطراف الملتزمة غير المباشرة، وهو ما يعرف بالخلف وغيرهم أي غير هذين الأطراف وهو الغير أي الذي لا علاقة له بالالتزام ولا يعنيه فيه شيء فالدائن للمدين دائن ودائن الدائن مدين للدائن ...الخ، أما من لم تكن له علاقة التزام بأي طرف من أطراف ذلك الالتزام فإن ذلك لا يعنيه هذه الدلالة، وهذا المضمون نجده لا يتماشى ولا يستقيم مع خصوصية السجل العيني لأن البائع لنفس العقار مرتين يجعل أحد المشتريين ملزما بالتزام البائع الأصلي دون الالتفات إلى شروط الفصل 305 م.ح.ع الذي يعتمد الآليات القانونية في الاستحقاق دون الآليات القانونية المعتمدة في الالتزام وهو أولوية الترسيم بالسجل العقاري وهو وجوب قانوني لإمكانية الاستحقاق في العقارات المسجلة لأن لو كان المقصود بالغير في المادة العقارية هو الغير الذي عرّفه المشرع صلب الفصل 240 م.إ.ع وهو كل شخص خارج عن دائرة العقد لأصبح الفصل 305 م.ح.ع عديم الدلالة. وعليه كان لزاما علينا لكي تستقيم المعاني أن يكون الغير في المادة الاستحقاقية والعقارية غير الغير في مادة الالتزامات.

هذا الرأي لا يشاركنا فيه أغلب الفقهاء وشراح القانون وجزء من فقه القضاء " يذكر الأستاذ عبد المنعم عبود : "مفهوم كلمة الغير في نطاق الفقرة الأولى من الفصل 305 م.ح.ع مفهوم موسع، الغير هو كل شخص أجنبي عن دائرة التعاقد وبعبارة أخرى هو كل شخص لا تطاله القوة الملزمة للعقد، من ثمة لا يعتبر غيرا حسب هذا المفهوم الأطراف المتعاقدة (الفصل 240 م.إ.ع)، مجلة الحقوق العينية معلق عليها، ص. 359.

في نفس السياق اتخذ فقه القضاء موقفا يجعل لمفهوم الغير دلالة متداخلة في المجالين المدني والعقاري، ونجد على سبيل المثال : "إن المراد بالغير هو كل من انجر لهم حق بوجه خاص أما من انجر لهم الحق بوجه عام كالورثة فلا يعتبرون غيرا وهو ما ذهب إليه القرار المطعون فيه ..." قرار تعقيبي عدد 3151 مؤرخ في 25 ماي 1981، نشرية محكمة التعقيب لسنة 1981 القسم المدني، ص. 59.

كما جاء أيضا بالقرار التعقيبي المدني عدد 130365 المؤرخ في 13 جانفي 1986 : "لا يمكن للورثة معارضة الحقوق العقارية لحلولهم محل مورثهم فيما عليه من التزامات وما له من الحقوق"، نشرية محكمة التعقيب، لسنة 1986، القسم المدني ص. 186".

وذلك بالرغم من صحة المدلول الي اعتمده المشرع ليس بمجلة الحقوق العينية فقط بل حتى من أحكام مجلة الالتزامات والعقود، فنلاحظ مثلا أن المشرع بعد أن تعرض إلى مدلول الغير في مادة الالتزامات بوجه عام صلب الفصلين 240 و241 م.إ.ع انتفل لعرض دلالة أخرى للغير في موطن أكثر خصوصية وهو مجال البيع العقاري وتحديدا صلب الفصل 581 م.إ.ع حين نص "... ولا يجوز الاحتجاج بالعقد المذكور على الغير إلا إذا سجل بقباضة المالية مع مراعاة الأحكام الخاصة بالعقارات المسجلة"، هذه العبارة تدل على أن هناك غيرا يتأثر بالأعمال القانونية حتى وإن لم يكن طرفا فيها، وهو عكس ما نص عليه المشرع صلب الفصل 240 م.إ.ع، وهذا التأثر عرفه المشرع بالأثر الاحتجاجي فهو في أي حال من الأحوال أثر عقدي لكنه أثر نسبي خاص بعمل قانوني معين في موضوعه وهو عقد البيع العقاري أو ما يتنزل منزلته كالهبة مثلا.

وبالتالي فالنزاع الاستحقاقي لا يحسم إلا إذا كان المعني بالاحتجاج طرفا في العقد أولا وأن يكون قد استبق المالك الغير بالقيام بتسجيل العقد لدى قباضة المالية لأن الأثر الاحتجاجي هو في نهاية الأمر حل لوضع تنازعي ولا يمكن أن نتصور وجود تنازع بين أطراف غير أطراف العقد أو من خلفائهم.

لذلك أكدنا على أن الغير في المادة العقارية هو غير يختلف مع الغير في الالتزامات، ولعل ما يؤكد ذلك أن الغير في المادة العقارية قد عرفه المشرع صراحة صلب الفصل 305 م.ح.ع بغير تعريف الفصلين 240 و241 م.إ.ع مع تقاربه مع أحكام الفصل 581 من نفس المجلة فقال : " ... الغير الذي اكتسب حقوقا على العقار ... واعتماد على الترسيمات الواردة بالسجل"، إذن هذا هو الغير في المادة العقارية هو كل طرف تعامل على السجل العقاري أي كل شخص غير المالك المدرج بالسجل " يراجع الأستاذة نبيلة الكراي : "حسن النية في المادة العقارية" مرجع سابق".

، هذا الاختلاف الواجب اعتماده في طبيعة الغير اعتمده أيضا المشرع الفرنسي وبينه بشكل واضح الأستاذ Alain Benabent وكذلك في جزء كبير من فقه القضاء " أستاذ مبرز، جامعة باريس X Nanterre ذكر في مرجعه :

Droit civil : Les obligations : publication Montchrestien 1987, p. 92 et s

« Les tiers proprement dits sont ceux qui n’ont aucun lieu de droit avec les parties, qui en sont notamment pas créanciers de l’une d’elles : on parle de tiers absolus (pénitus extranée) leurs égard, l’article 1165 traduit un vieil adage encore souvent évoqué : « res inter alios alios nec nocere nec prodesse potest ».

Les termes employés par l’article 1165 sont toutefois excessifs en laissant penser que le contrat est sans effet à l’égard des tiers. En réalité, ce contrat a des incidences importantes à leurs égards et il faut distinguer l’exécution du contrat de son opposabilité.

L’exécution du contrat, c’est-à-dire des obligations qu’il crée ne peut pas être exigée d’un tier ni par un tier.

On ne peut pas demander à un tiers d’exécuter ces engagements qu’il n’a pas pris, par exemple … mais l’opposabilité du contrat aux tiers est une notion différente, même s’ils ne doivent participer à son exécution les tiers ne peuvent ignorer l’existence du contrat et la situation du faite et de droit qui en résulte on dit que le contrat leur est opposable et réciproquement, est invocable par eux. Cette règle très générale trouve deux illustrations fréquentes en pratiques.

D’une part, les contrats translatifs de propriété (ou d’autres droits réels à créant une situation nouvelle que les tiers ne peuvent ignorer : celui qui est victime de l’effondrement d’un immeuble doit s’adresser au propriétaire (art. 1386)".

فالعلاقة هنا لا تقوم على أساس العلاقة الشخصية أو العقدية بل هي تقوم بين مالك مدرج بالسجل العقاري وبين غيره أي الكافة، وهي صفة مطلقة مجالها أوسع من مجال صيغة الفصل 240 م.إ.ع " هذا المفهوم أو هذه الدلالة للغير في المادة العقارية قد كرسها فقه القضاء التونسي في عديد من القرارات، نذكر على سبيل المثال : القرار التعقيبي المدني عدد 7125 مؤرخ في 2 ماي 1983 : "المقصود من الغير في مجلة الحقوق العينية هو مكتسب الحق على العقار بالاستناد إلى ما هو مدون بالسجل العقاري لا مجرد من يدعي حقا على العقار مسجل غير قابل للترسيم" ، نشرية محكمة التعقيب لسنة 1984، ص. 215.

وما تجدر الإشارة إليه انطلاقا من هذا القرار توصله إلى إخراج مفهوم الغير بدلالة خاصة وفي المادة العقارية قائلا : "الغير في مجلة الحقوق العينية" وهو بالتالي إقرار بأن الغير في المادة العقارية يختلف في مدلوله وبالتالي في النظام القانوني المنطبق عليه مع الغير في المادة المدنية وتحديدا التعاقدية".وهذا الغير في نهاية الأمر هو من جعل من أجله ومن أجل مصالحه مؤسسة السجل العيني فكل من تعامل طبق ما هو وارد بالسجل العقاري يبقى محميا بمفعول القانون طالما كان حسن النية شرط أساسي للحماية، لذلك كان لزاما أن نقف في مدلوله ومقوماته في موطن متقدم من هذا الكتاب.

إن مفهوم الغير بهذه الدلالة يخرجنا بشكل سليم من التناقض الذي قد يحصل بين هذه الدلالة والقوة الإلزامية لأحكام الفصل 305 م.ح.ع أي الأثر الاحتجاجي والأثر المنشئ للترسيم، غير أن هذا المفهوم لا يحسم بشكل دقيق الفصل بين الغير وبين الورثة. أي هل أن الورثة يعتبرون غيرا بالنسبة للأعمال القانونية التي ينجزها أو كان قد أنجزها مورثهم في قائم حياته، فعدم علم الورثة بخروج جزء من أملاكهم العقارية في قائم حياة مورثهم وعدم إدراج ما يثبت ذلك بالسجل العقاري يجيز لهم بمقتضاه إدراج حجة وفاة مورثهم لنقل الملكية إليهم ومواجهة المشتري من مورثهم لذلك الترسيم ؟

إذا ما فعّلنا مبادئ السجل العقاري بشكل تقني يمكن أن نجزم بأن أحكام الفصل 305 م.ح.ع واضحة الدلالة في كون الحق غير المرسم لا يمكن أن يحتج به، وبالتالي فهو طالما لم يستثن الورثة صراحة لا يمكن استثنائهم من الانتفاع من حق الأولوية في الترسيم. ومع ذلك فإن الأخذ بهذا الرأي قد يتداخل بل يتعارض مع أحكام الميراث الذي تحكمه قواعد خاصة، بل أن هذه الأحكام يضبطها القرآن في عديد المواطن " سورة النساء الآية 11 قال تعالى : "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا".وأهمها قاعدة "تدوم" التي توجب خلاص الديون والوصايا قبل الميراث وهو أمر أحكمه الله عز وجل بصريح الآية والأصل، وانطلاقا من هذا المعنى يصبح الميراث جزء من التركة التي يتوجب على مصفيها إخراج الديون والوصايا قبل فريضة الميراث، ومن ثمة اعتبرت أعمال المورث المجراة قبل وفاته نافذة إلى الورثة وملزمة لهم كما لو كان مورثهم حيا، وعليه فإن أمر شهر تلك الأعمال بالسجل العقاري يصبح غير ذي دلالة لأن تلك الأملاك خارجة أصلا عن استحقاق الورثة وأن تولي هؤلاء ترسيم حجة وفاة مورثهم ونقل أملاكه إليهم وجب إبطال ذلك الترسيم لقيامه على حقوق غير موجودة.

هذا الاتجاه وهو الغالب يعتبر من المواقف الأكثر تقليدية، فالقانون الإسلامي يعتمد هذا الرأي وهو رأي غالب لدى المذاهب الأصلية "يراجع في هذا :

- أحمد وحيد الدين سوار (مرجع سابق).

- عبد الرزاق السنهوري : الوسيط (مرجع سابق).

- علي كحلون : نظام السجل العقاري (مرجع سابق).

- توفيق حسن فرج : "القانون الروماني" الدار الجامعية – بيروت 1985."

وهو كذلك رأي معتمد في القانون الوضعي الفرنسي " لقد تكرست هذه النظريات لدى جل الفقهاء الفرنسيين وفي مقدمتهم الأستاذ Alex WEIL حيث ذكر :

« Ce que nous venons de dire s’applique seulement aux ayants cause à titre particulier. Bien que certaines mutations par décès à titre universel soient (depuis 1935) assujettis elle-même à la publicité, jamais héritiers et légataires à titre universel se sont pas des tiers. Ils ne peuvent opposer à un ayant cause à titre particulier, qui a traiter avec leur auteur, le défaut de publication de son titre avant la publication de l’attestation de leur propre qualité. Car ils représentent leur auteur et sont, comme celui-ci, tenus personnellement envers l’acquéreur des obligations nées de la vente » Droit civil, Les suretés : la publicité foncière » p. 572.

هذا الاتجاه أتخذ كذلك لدى الفقهاء العرب ويمكن أن نورد في هذا موقف المشرع السوري حسب تعليق الأستاذ محمد وحيد الدين سوار يقول : "إن أموال التركة تنتقل كما قدمنا فور وفاة المورث إلى الورثة وهذا القول كما هو ظاهر يستتبع انتقال التزامات المورث إلى الورثة الذين آلت إليهم أمواله إذ لا يعقل أن تنتقل أموال التركة إلى الورثة فور الموت، في حين أن ديون المورث تبقى متعلقة بذمته ..." شرح القانون المدني : الحقوق العينية الأصلية - مرجع سابق. الذي استمده بطبيعة الأمر من القانون الروماني، هذه الأصول الفقهية إسلامية كانت أم رومانية تتجه إلى أكثر من ذلك، فهي تعتبر أن ليس للورثة في الحقيقة وجود قانوني مستقل عن وجود مورثهم فهؤلاء هم امتداد لمورثهم في حقوقه والتزاماته وأن ما أبرمه في قائم حياته معتبر وكأنه مبرم منهم أصلا فهم في هذا يأخذون مرتبة الأطراف وليس الغير والطرف لا يمكن أن ينكر على معاقده ما التزم به بحكم وثيقة الالتزام نفسها أي العقد وهو شريعتهما وليس الشهر هو الذي يحكم علاقتهما لأن الشهر أعد لصالح الغير وليس لصالح الأطراف، وعليه كان الشهر بينهم غير واجب.

وعلى الرغم من وضوح هذه النظرية المتعلقة خصوصا بالورثة وإخراجهم من نطاق دائرة الغير، فإن آثارها قد تؤدي إلى عدم إمكانية صحتها على جميع المستويات وفي جميع الحالات القانونية، وإننا نعتقد أن الأمر في حالات قصوى قد يصل بنا إلى إسقاط النظرية كلها بمجملها.

الرأي عندنا أن وضعية الورثة يجب أن تعالج بحسب الوضعيات القانونية للأعمال القانونية التي يتولاها المورث قبل وفاته ولو لم يقع شهرها فصحة النظرية قائمة ولا لبس فيها إذا ما تعلق الأمر بوصية فهي مفضلة على الإرث وهي لا تستحق إلا بعد وفاة الموصي كالإرث تماما وبالتالي متزامنة في استحقاقها مع الإرث بل استبقاها إياه بمجرد وفاة المورث بجعلها مضمونة قانونا دون ضرورة للشهر لأن شهر انتقال الملكية للورثة لا يمكن أن يحتويها، أما سائر العمليات الأخرى فإن الأمر سيبقى رهن الاجتهاد فالمشتري من المشتري من المورث دون توليه إدراج عقده بالسجل العقاري واستباق الورثة ترسيم حجة وفاة مورثهم يجعله غير قادر على مواجهتهم بلك العقد لأنه معتبر غيرا بالنسبة إليهم فهو لم يعاقد ورثهم وبالتالي لا يلتزمون بالتزامه، ففي هذه الحالة تصبح نظرية وحدة الذمة بين المورث والورثة غير قادرة على حل النزاع ويصبح المجال في هذا النطاق محسوما بالضرورة بوسائل الشهر العيني أي مبدأ الأسبقية في الترسيم ومبدأ معارضة الغير، والوضعية قد تزداد أكثر صعوبة إذا ما تولى أحد الورثة التفويت في منابه بعد ترسيم حجة وفاة مورثه وكل ذلك قبل أن يتولى المشتري من الوارث الأصلي إدراج عقد شرائه. في هذه الحالة نعتقد أن الأمر يتعلق أصلا بأحكام الفصل 305 م.ح.ع وهي حالة تستدعي بالفعل اعتبار المالك الجديد وهو خلف خاص مالكا في مواجهة معاقد مورث الخلف العام.

هذا الرأي لا يختلف فيه الفقهاء ولا أيضا فقه القضاء، ويبقى الخلف العام فقط من لا يتمتع بصفة الغير في المجال العقاري وكذلك المجال المدني، أما الخلف الخاص فهو معني بالالتزامات المدنية فهو ليس غيرا أما في المادة العقارية يصبح غيرا. قصور النظرية المدنية للغير في تطبيقها في المجال العقاري تفطن إليه Alex Weil فذكر : ""Certes l’héritiers représentant son auteur défunt, ne peut se plévatoire de défaut de publication de l’aliénation consentie par ce dernier, mais il n’y a pas de raison de refuser ce droit à l’ayant causé à titre particulier de l’héritier". " يمكن مراجعة القرار التعقيبي المدني عدد 5864 المؤرخ في 9 جوان 1975 الذي جاء به : "للمشتري على حسن نية الحق في ترسيم مشتراه بدفتر خانة للملكية العقارية ومعارضة الغير به ولو كان ذلك الغير مشتريا أسبق منه تاريخا والمراد بحسن النية هو أن لا يكون المشتري وقت إبرام العقد متواطئا مع البائع وألا يكون حسن الشراء على علم بذلك" نشرية محكمة التعقيب لسنة 1975، القسم المدني، ص 114."

لكن قد تصبح النظرية المدنية للغير غير جائزة في المادة العقارية بالنسبة للورثة إذا ما اعتمدنا أحكام الفصل 305 م.ح.ع جديد، فجواز النظرية ممكن صلب الصيغة القديمة للفصل المذكور، أما وقد شدد المشرع على ضرورة الترسيم حتى يتكون الحق فإن اعتماد النظرية المدنية للورثة في نطاق هذه الأحكام الجديدة لا يمكن الأخذ بها، وعليه فالمشتري أو الموهوب له من قبل المورث في رسم خاضع للأثر المنشئ للترسيم لا يمكن أن يعتبر مالكا إلا من تاريخ الترسيم فطالما لم يرسم لا يعتبر مالكا لأن الملكية في هذه الحالة لا تنتقل بالعقد بل بالترسيم وطالما كان الرسم باقي على ملك المورث فهو المالك والعقد الذي أبرمه يبقى لا عمل له على نقل الملكية ويحق بالتالي للورثة أن يدرجوا حجة وفاة مورثهم، وهذا الإدراج لا يثير حق الاحتجاج به فقط بل يثير حق نقل الملكية أصلا لأن الخلف الخاص للمورث لم يصبح مالكا بعد.

نلاحظ انطلاقا من هذه النتيجة ما قد يؤدي إليه الأثر المنشئ للترسيم على حقوق الأطراف المتعاملة، بما في ذلك الورثة أنفسهم وما يؤدي ذلك إلى خلق حالة غير استحقاق للعقار الموروث، إذ أن الورثة الذين لا يتولون إدراج حجة وفاة مورثهم لا يمكن اعتبارهم مالكين طبق أحكام الفصل 305 جديد فإن كان ذلك ممكنا بالنسبة لسائر أسباب نقل الملكية حيث يبقى البائع مالكا حتى يتولى المشتري إدراج عقده والواهب مالكا حتى يتولى الموهوب له إدراج عقد هبته، فإن ذلك يصبح لا معنى له في وسيلة الإرث لأن العقار في هذه الحالة يفقد مالكه، فالورثة ليسوا مالكين لعدم إدراج حجة وفاة ومضمون وفاة مورثهم بالسجل العقاري والمورث لا يمكن اعتباره مالكا لأنه أصبح في حكم المعدوم.

هذه الوضعية قد تؤدي إلى التساؤل حول إمكانية إخضاع الإرث إلى إجراءات الترسيم الوجوبية حتى تنتقل الملكية إلى الورثة أم أنها يمكن أن تخرج عن نطاق هذا الشرط؟.

هذه الوضعية قد لا نجد لها جوابا في القانون التونسي بشكل دقيق وصريح " لم يقع على حد علمنا إثارة مثل هذا الإشكال القانوني لدى المحاكم التونسية المدنية أو حتى لدى المحكمة العقارية ولم يقم الفقه على حد علمنا إثارة هذه المشكلة ومعالجتها، ومع ذلك فعلى الأوساط القضائية أن تراعي قراءة الفصل 305 م.ح.ع جيد بما تحتمله من بين وسائل كسب الملكية في خصوص الأثر المنشئ للترسيم". في حين أن القانون المقارن وإن قدم بعض الحلول، فإنه لا يمكن اعتباره حاسما في ذلك لأن ما توصلنا إليه من القانون المقارن هي مراجع قانونية لا تعتمد مبدأ الشهر العيني بالشكل المعتمد في القانون التونسي ولو أن أغلبها خاصة القانون السوري " الفصل 825 الفقرة الثالثة من القانون السوري الذي ينص على : "كل من اكتسب عقارا بالإرث ... يكون مالكا له قبل تسجيله ..."، وتعليقا على ذلك يبين الأستاذ محمد محي الدين سوار ما يلي : "وظاهر من هذا النص أن الوارث يعد مالكا لعقارات التركة بمجرد وفاة المورث دون حاجة إلى شهر حقه ويرجع ذلك إلى أن الميراث يقوم على واقعة معينة هي وفاة المورث، وبالوفاة تنتهي شخصية المورث فكان لابد " قد ذهب إلى اعتماد القواعد المستمدة من الفقه الإسلامي في مادة المواريث وهو أن الإرث يستحق بوفاة المورث وليس بالترسيم بالسجل العيني، وهو اتجاه قد نجد له أثرا فمجلة الأحوال الشخصية قد نصت على ذلك صراحة واعتمدت صلب فصلها 85 على ما يلي : "يستحق الإرث بموت المورث ولو حكما وبتحقق حياة المورث من بعده".

وعليه فإن أحكام الفصل 305 م.ح.ع تصبح متناقضة تناقضا صريحا مع أحكام الفصل 85 المذكور، فهذا الفصل ينقل وينشئ الاستحقاق بمجرد وفاة المورث في حين يجعل الفصل 305 جديد من حادثة الموت واقعة غير منقلة للحق لأن هذا الحق لا ينشئ من جانب الورثة إلا من تاريخ الترسيم، وهو موقف معاكس تماما لموقف المشرع السوري والمشرع المصري الذي فضل الوفاة عن الترسيم، ثم كان حريا بالمشرع التونسي حين أصدر جملة القوانين المنقحة للفصل 305 وتحديدا القانون عدد 46 وعد 47 وعدد 48 المؤرخين في 4 ماي 1992 وكذلك القانون عدد 91 لسنة 2000 المؤرخ في 31 أكتوبر 2000 المتعلق بالدخول التدريجي للأثر المنشئ للترسيم على الفصول 305 م.ح.ع و581 م.إ.ع و204 م.أ.ش أن يضيف الفصل 85 م.أ.ش باعتبار الإرث سببا من أسباب كسب الملكية يطاله الأثر المنشئ للترسيم، وإننا لا نعتبر أن ذلك مجرد سهو أو خطأ من المشرع أو تقصيرا منه بقدر ما هو موقف تشريعي معلوم ومقصود تتمثل خلفيته في سعي المشرع إلى المحافظة على مبادئ التشريع الإسلامي بالنسبة للميراث واحترامها قدر الإمكان، غير أن هذا الموقف لم يكن مدروسا فأدى إلى هذا التضارب بين سائر الفصول القانونية وإننا نرى أن الخروج من هذا التناقض لا يمكن أن يمر إلا عبر أحكام الفصل 542 م.إ.ع " ينص الفصل 542 م.إ.ع : "لا تنسخ القوانين إلا بقوانين بعدها إذا نصت متأخرة على ذلك نصا صريحا أو كانت متناقضة لها واستوعبت جميع فصولها".

هذا الفصل يسمح بالقول بأن أحكام الفصل 305 م.ح.ع جديد قد نسخت أحكام الفصل 85 م.أ.ش، هو في النهاية رأي جديد من الجانب القانوني، أما من جهة أخرى فإنه رأي خطير وتكمن هذه الخطورة من جانبين، جانب حضاري شرعي وذلك أن الأخذ بأحكام الفصل 305 م.ح.ع بما يخالف أحكام الفصل 85 م.أ.ش مناقض لأحكام الشرعية الإسلامية المعتبرة المصدر الأساسي لمجلة الأحوال الشخصية، وجانب استحقاقي وحمائي ذلك أن التركة هي من أهم الأموال الضامنة لاستخلاص الديون، وبوفاة المدين يصبح استخلاص الدين مستوجبا على الورثة وأن تقام ضدهم الدعاوى في الاستخلاص بوصفهم المالكين، لكن إذا كانت تك الصفة لا تتحقق إلا بالترسيم فإن عدم ترسيمهم بالسجل العقاري يعوق قيام الدائنين ضدهم ويصبح الأثر المنشئ للترسيم بهذا المنظور سببا قانونيا مشرعا للتفصي من مسؤولية الأداء.

هذه الآثار السلبية أو الخطيرة قد لا تكون في حقيقة الأمر بهذا الوجه من الصعوبة والسلبية فهي في النهاية من نقاط الضعف التي يمكن تجاوزها إما ردا أو حلا.

فالرد يمكن اعتباره جوابا للمأخذ الأول القائل بأن تطبيق أحكام الفصل 305 جديد م.ح.ع فيه تجاوز لأحكام الشريعة، والحقيقية أن هذا المأخذ غير صحيح لأن اعتماد أحكام الفصل 305 لم ينف القول بأن سبب الإرث هو وفاة المورث، فهذا السبب لا زال قائما ففي كل حال لا يمكن أن يصبح الوارث مالكا بوفاة المورث فقط إنما وفاة المورث أصبحت بعد دخول الأحكام الجديدة غير كافية بمفردها لملكية الوارث وذلك حثا على حفظ الحقوق بترسيمها والحيلولة دون وقوعها بالجمود.

أما السبب الثاني القائل بخطورة تطبيق مبدأ الأثر المنشئ للترسيم على الميراث في خصوص حقوق الدائنين فإن هذا المأخذ مردود عليه، لأن المشرع التونسي لم يبق ترسيم الترسيم التركة رهن إرادة الورثة بل خول كل من له حق من حقوق التركة طلب ذلك الترسيم وهو ما اقتضاه كل من الفصلين 395 و396 م.ح.ع المخولين ترسيم حقوق المتوفي وإمكانية إدراج الترسيم باسم التركة قبل التصفية أو القسمة " ينص الفصل 395 م.ح.ع أنه يجوز الترسيم، أي ترسيم الحقوق على مكاسب شخص متوفي وذلك بتعيين الشخص المتوفي فحسب، وهو ما يؤكد أن وفاة المورث تمنع أي دائن ممتاز أو راهن من ترسيم حقه وله في ذلك أن يواجه الورثة بذلك الحق طالما وقع ترسيمه أما وإن لم يقع ترسيمه فاستبق في ذلك الورثة أصبحت المطالبة بذلك الحق من قبل الدائن فيما يتعلق بالحق العيني غير ممكنة حسب رأينا وما فتح هذه الإمكانية من قبل المشرع التونسي إلا دليل على سعيه المحافظة على مبدأ الأولوية في الترسيم الذي أصبح بعد تنقيح الفصل 305 أكثر جدية وخطورة فكان ما اقتضته أحكام الفصل 395 متناسقا تماما مع أحكام الفصل 305 المؤدي في نهاية الأمر إلى وجوب ولزوم الترسيم.

أما أحكام الفصل 396 فهو قد أعطى للتركة وجودا قانونيا مستقلا عن الورثة من ناحية وعن أصحاب الحقوق المتعلقة بها من ناحية أخرى، وعليه فإن التركة في هذه الصورة تصبح لها تأسيس قانوني مستقل عن الذمم المالية لأصحاب الحقوق، وعليه فإن جميع هذه الحقوق سوف لن تحسب للورثة ولن تحسب لأصحاب باقي الحقوق بل تحسب للتركة فقط وبالتالي فإن عدم إدراج نقل الملكية للورثة من قبلهم إضرار بحقوق الدائنين سوف لن يجعل حقوق المورث بعد موته دون مالك في نطاق مبدأ المثر المنشئ للترسيم لأنها سوف تلحق بالتركة وأي حق راجع للمورث قبل موته يمكن إدراجه باسم التركة، وهو طلب يقدم من كل ذي مصلحة طبق أحكام الفصل 392 م.ح.ع، هذا الترسيم لا يتم باسم أي صاحب حق موجود بالتركة بل باسم التركة أي بموجب ترسيم موضوعي وليس ذاتي أو شخصي، كل ذلك إلى حين إجراء القسمة أو التصفية، وهو دليل على طلب الترسيم باسم التركة يمكن تقديمه من أي كان لأن القسمة هي حق الورثة أما التصفية فهو حق جميع أصحاب حقوق التركة".

ونلاحظ من هذا المنطلق أن الوسائل التي أتاحها المشرع صلب الفصلين المذكورين تعد من الوسائل التحفظية الحامية لحقوق الدائنين.

علاوة على ما يخوله المشرع لأصحاب هذه الحقوق من القيام بأي إجراء تحفظي طبق أحكام الفصل 396 م.ح.ع " إن وسائل الحماية لحقوق الدائنين من خطورة سبق ترسيم حجة الوفاة لا تنحصر في الوسيلتين المذكورتين فقط، لأن المشرع قد أعطى طريقة تحفظية أخرى وهي الواردة صلب الفصل 396 م.ح.ع وهي وسيلة القيد الاحتياط، هذا الفصل قد نص على أنه يمكن أن تقيد قيدا احتياطيا برسم الملكية "... الدعاوى الرامية إلى ... أو إدخال تعديلات على الترسيمات الواقعة بموجب نقل بالوفاة ....." وهي جميع الدعاوى التي تعلق موضوعها بأي حق من الحقوق المشمولة بالتركة وكما هو معلوم فإن آثار القيد الاحتياطي مهمة جدا على الترسيمات والحقوق المرسمة (يراجع أحكام الفصل 370 م.ح.ع.)".

خاصة أن طلبات التسريم قد خولها المشرع لكل شخص دون تحديد للصفة أو المصلحة لأن ترسيم الحقوق بالسجل العقاري هي مسألة لها مساس بالمصلحة العامة وهو ما نص عليه الفصل 392 م.ح.ع.

جملة هذه الحلول المقدمة لحماية أصحاب حقوق التركة تعتبر حلولا أكثر جدية ومتانة عندما نقارنها ببعض الحلول المعتمدة لدى التشريع المقارنة المحافظة على أولوية الوفاة عن الترسيم في استحقاق الميراث " يمكن أن يراجع في ذلك القانون السوري وتحديدا الفصل 875 مدني : "إذا لم تكن التركة قد صفيت ... جاز لدائني التركة العاديين أن ينفذوا بحقوقهم، أو بما أوصى به لهم على عقارات التركة التي حصل التصرف فيها، أو التي رتب عليها حقوق عينية لصالح الغير، إذا أشروا بديونهم وفقا لأحكام القانون".

ويذكر الأستاذ محمد وحيد الدين سوار معلقا على هذا المعنى ما يلي : "والتأشير المشار إليه في هذا النص هو القيد المنصوص عليه في الفقرة الأولى من المادة 1088 التي تنص على "للدائن وللموصى لهم أن يحفظوا حقوقهم بفصل أموال التركة عن أموال الورثة بقيد تأمين جبري يسجل في السجل العقاري خلال الستة أشهر التي تلي فتح التركة". ويضيف "وقد أوضحت الفقرة الثانية من المادة 1088 المذكورة أنه : إذا لم يتم القيد في المدة المذكورة، فلا يكون لهذا الحق أثر على العقارات".

يمكن أن نلاحظ كذلك أن القانون المصري قد اتخذ حلا مغايرا للموقف التونسي، وهو في الحقيقة أقل حماية منه حين تنص المادة 14 من قانون الشهر العقاري المصري على أن "للدائن إذا ما قام بالتأشير بحقه خلال سنة من تاريخ تسجيل حق الإرث أن يحتج بحقه على كل من تلقى من الوارث حقا عينيا عقاريا ولو قام هذا الأخير بشهر حقه قبل التأشير المذكور".

أما القانون العراقي فقد ابتعد كثيرا عن موقف المشرع التونسي في خصوص مسألة حماية أصحاب حقوق التركة حيث نصت المادة 1107 من القانون المدني العراقي على ما يلي : "لدائني التركة العاديين وللموصى لهم أن يلاحقوا لاستيفاء حقوقهم في التركة التي نقلت الورثة مليكتها للغير أو رتبت عليها حقوقا عينية ويسقط حقهم هذا بعد انقضاء ثلاث سنوات من موت المدين" والملاحظ في هذا النص أنه لم يوجب أي إجراء إشهاريا لأعمال الورثة مما لا يسمح للدائن أن يعلم بهذه الأعمال وهو إجراء في منتهى الخطورة (هذا التعليق اتخذه أيضا الأستاذ محمد وحيد الدين سوار في نفس المرجع)".

المبحث الثالث : حسن النية

1-لقد اعتبرها المشرع صلب الفصل 305 شرطا أساسيا لتفعيله بحيث يسقط مبدأ حماية الغير إذا لم يكن غيرا حسن النية. ومن خلال ذلك نلاحظ أيضا أن سلطة الحق المرسم وحمايته إنما أحدثه المشرع للغير دون الأطراف أي دون أصحاب الحقوق الأصلية.

والواضح كذلك أن المشرع كيفما لم يوضح دلالة الغير صراحة مثلما وقفنا على ذلك، أيضا فإنه لم يعط دلالة صريحة لمفهوم حسن النية " يلاحظ أن مسألة حسن النية لم يتولاها المشرع بكل دقة صلب مجلة الالتزامات والعقود باستثناء بعض المبادئ العامة الواردة بها والتي منها يمكن الاستدلال عليها مثل أحكام الفصل 558 م.إ.ع "الأصل في كل إنسان الاستقامة وسلامة النية حتى يثبت خلاف ذلك" أو أحكام الفصل 559 م.إ.ع الذي ينص "الأصل في الأمور الصحة والمطابقة للقانون حتى يثبت خلافه" وأحكام الفصل 560 م.إ.ع الذي ينص : "الأصل براءة الذمة حتى يثبت تعميرها".

أما في مجلة الحقوق العينية فإن المشرع قد استعملها بشكل صريح وفي عدة مواطن منها خاصة الفصل 305 والفصل 357 مكرر وذلك دليل على أن أمر حسن النية متصل مباشرة بالشهر العيني وما ينجر عنه من آثار قانونية انطلاقا من سبق الترسيم والأولوية في الترسيم، وهو أساس هام لأن من أهم مؤسسات مبادئ الشهر العيني حقوق الغير حسن النية.

يراجع في هذا منير الفرشيشي : "محاضرات في القانون العقاري" سنة 2011، ص. 88."

وهو ما يؤدي ذلك إلى البحث في هذه الدلالة عبر الفقه وفقه القضاء " يكون لاخدش فيه الحكم الذي أذن بابطال الترسيم العقاري لعقد المشتري الثاني الذي سبق بادراج شرائه وثبتت سوء نيته بقرائن قويّة متجمعة من بينها علمه بسبق شراء خصمه وتعرضه له عند التحويز" قرار تعقيبي مدني عدد 14215 مؤرخ في 17 مارس 1986، مجلة القضاء والتشريع، ص. 169".

وأولى عناصر هذه الدلالة الوقوف على مضمون حسن النية، والواضح أننا لا نجد تعريفا لحسن النية في سائر فصول مجلة الحقوق العينية، ولذلك سعى سائر الفقهاء إلى تعريفها ولكن انطلاقا من بيان عكسي أي أن أغلب الفقهاء قد حددوا مفهوم حسن النية انطلاقا من تحديد مفهوم سوء النية، ويلخص هذا التعريف في عنصرين أساسيين عنصر مادي وهو القيام بأي عمل إيجابي أو سلبي يدل على وقوع ضرر أو خداع أو تغرير مثل وقوع العلم بسبق البيع والسعي مع ذلك في إبرام عقد آخر مع البائع الأصلي وعنصر معنوي ويتمثل في أن السعي في عمل الخديعة أو التغرير إنما دافعه هو إلحاق الضرر بالذي وقع عليه ذلك الفعل " يقول Alex WEIL :

« La fraude en matière de transfert immobilier implique, comme toute fraude, un élément psychologique », Droit civil, Les suretés : la publicité foncière » p. 574.

وتجدر الإشارة في هذا النطاق أن الفقه الفرنسي يعتمد على مفهوم الخطأ القصدي La fraude لتحديد دلالة حسن النية ولو أن الجانب القصدي أو المعنوي لا يمثل توحيدا بين سائر الاتجاهات الفقه قضائية الفرنسية، فهناك اتجاه يعتبر مجرد وقوع العلم من قبل المشتري الثاني يسبق البيع وسعيه إلى إبرام عقد آخر لصالحه لا يحق له فيه التمسك بحق الأفضلية أو الأسبقية في التسجيل.

يراجع في هذا :

Arrêt civ. Chau. Civ 1ère du 17 oct 196 sem – jur II note : Bulte.

Arrêt civ. 3ème Chau – 10 mai 1972. But. Civ."

وما تجدر الإشارة إليه في هذا أن الفقه الفرنسي المعتمد أساسا على فقه القضاء قد اتصف بخاصيتين: الأولى أنه لا يعتبر المشتري الثاني العالم بحدوث البيع الأول دون إدراجه محقا في طلب الاستحقاق بالأولوية وهي صفة لا تتعارض أساسا مع مبدأ الفصل 305 م.ح.ع وروحه على اعتبار أن هذا الفصل لا يحمي إلا حسن النية.

الثانية أنه اعتمد في مفهومه حسن النية على مبادئ القانون المدني وليس على مبادئ الشهر العيني أو على الأقل على مبادئ قانون الحقوق العينية، لذلك وجد نفسه متناقضا بين مبدأ احترام حسن النية في الشهر وبين مفهوم حسن النية لأنه يرى أن حسن النية من عدمه يتضح ويستنتج من ملابسات كل وضعية ووقائعها وهو أمر تبقى مقاييسه موكولة لاجتهاد المحكمة، بالتالي لن يكون العنصر القانوني المحدد لوجود سوء النية إلا الخطأ المادي أو الخطأ الجنائي، وهو ما يعني أن سوء النية تبقى مسألة شخصية ذاتية خاضعة لشروط قيام الخطأ من عدمه وشروط تحديد أنواعه، وهو ما يفتح الباب إلى اجتهادات المحاكم وبالتالي غياب المقياس الموضوعي والمطلق والتقني المستوجب في مادة الشهر العيني الواجب الانطباق على كل أصحاب الحقوق المتعاملة على السجل العقاري على اعتبار أن مسألة الشهر العيني هي مسألة شكلية بالأساس.

موطن الضعف في هذا الاتجاه يتجلى كذلك على مستوى ما قد يحدث من اختلاف حول طبيعة الخطأ في وجوب اعتماد النية القصدية للمخالف أم الاقتصار على وجود الضرر موضوعيا، كل ذلك كما ذكرنا يوهن إلى حد كبير جدوى الشهر العيني.

ولئن كان هذا التجاه له ما يبرره لدى فقه القضاء الفرنسي، فإننا لا نجد لذلك تبريرا لموقف فقه القضاء في تونس في فترة معينة على الأقل، فالتشريع الفرنسي لا يتعامل مع مبادئ الشهر بالمفهوم العيني بل بالمفهوم الشخصي، وبالتالي لا يمكن أن نتصور تطورا من جانبه في هذه المسألة " يقول Alex WEIL :

« c’est un conflit délicat a arbitrer que la jurisprudence a toujours tranché contre la règle de priorité des formalités de publicité lorsque la seconde vente, publiée la première, a été le résultat d’un concert frauduleux entre le vendeur et un second acquéreur en vue de dépouiller l’acquéreur président mais initialement la simple mauvaise foi de l’acquéreur qui connaissait l’existence d’une aliénation antérieure de l’immeuble non publié ne l’empêchait pas de bénéficier de la priorité de sa publication ».

هذا الفقيه يضيف موضحا اختلاف فقه القضاء في تحديد مفهوم سوء النية والتضارب الحاصل في ذلك :

« Cette évolution devait aboutir à une conception plus large encore de la notion de fraude. La jurisprudence admettant que la simple connaissance par le second acquéreur d’une première aliénation non publiée ne lui permet pas d’invoquer à son profit les règles de la publicité foncière » (civ. 30 mai 1972, Bul. Civ III)."

أما ولقد تعلق الأمر بالوضع في تونس فإن فقه القضاء يخطئ عندما لا يتعامل مع مجلة الحقوق العينية في تحديد مفهوم حسن النية " هذا الاتجاه اتخذته محكمة التعقيب في أحد قراراتها وهو القرار المدني عدد 8790 مؤرخ في 1 فيفري 1977، نشرية محكمة التعقيب 1977، ص 76 الذي جاء : "تقرير سوء النية أمر موضوعي من اختصاص قضاة الأصل وداخل في نطاق اجتهادهم المطلق شريطة التعليل المستوفي".

ويمكن كذلك مراجعة القرار التعقيبي المدني عدد 4521 مؤرخ في 12 جانفي 1982، نشرية محكمة التعقيب، القسم المدني سنة 1982، جI، ص. 95 الذي جاء به : "العقار المسجل وهو مشترك بين الدائن والمدين وقام هذا ببيع منابه للغير الذي لم يرسمه بالسجل العقاري وقد سبقه الدائن بالتحصيل على قيد احتياطي محافظة على دينه ثم عقل ذلك المناب وتوصل لشرائه على طريق محكمة البيوعات فقيام ذلك البائع بموجب سوء نية مشتريه لا تسمح دعواه فيه وذلك ما صدر به الحكم المنتقد فكان لا مطعن فيه وتعين فيه رفض الطعن".

وعليه فإنه بات من الأصلح الرجوع لمبادئ مجلة الحقوق العينية ودون غيرها من المراجع القانونية وبالتالي الخروج تماما عن مفهوم الخطأ والفعل الضار وربط حسن النية وسوئها بنتائج الوقائع المادية واستقراءات المحكمة من ذلك، بل عليه اعتماد عناصر تقنية دقيقة تتماشى مع مبادئ الشهر العيني وخصوصياته وذلك بالرغم من أن أمر الرجوع إلى مجلة الحقوق العينية يوجب شيئا من التوضيح.

إن هذا التوضيح ناتج بالأساس عن أن مجلة الحقوق العيني لم تتخذ تعريفا مدققا لحسن النية وأدى ذلك في مرحلة أولى إلى إعطاء مفهوم لحسن النية أقرب ما يكون إلى المفهوم المدني منه إلى المفهوم العيني وذلك نتيجة لما كان يتضمنه الفصل 305 قديم " هكذا كانت صيغة هذا الفصل قبل التنقيح المجرى عليه سنة 1992 (305 م.ح.ع قديم : "كل حق لا يعارض به الغير إلا بترسيمه بإدارة الملكية العقارية وابتداء من تاريخ ذلك الترسيم وإبطال الترسيم لا يمكن بأي حال أن يعارض به الغير الذين يكون حسن النية")."

لكن وبعد التنقيح الوارد على هذا الفصل توضح أكثر مفهوم حسن النية وتشكلت أسسه.

2-المفهوم القانوني لحسن النية طبق الوضعية القديمة :

اعتمد المشرع واستعمل عبارة "حسن النية" في مجلة الحقوق العينية في عدة مواطن من أهمها الفصول 44 و46 و305 و307 مكرر من مجلة الحقوق العينية، هذه الفصول جميعها اعتمدت مبدأ حسن النية، لكنها جميعها لا تحدد ضوابط حسن النية هي تكتفي بعرضها فحسب، غير أن الفصل 44 منها قد أعطى دلالة وتعريفا يقرب إلى المفهوم الصحيح لحسن النية مع كونه لا يضعها في موضع مستقل عن قواعد القانون الشخصي " تراجع الفصول 44 و46 و305 و307 مكرر من مجلة الحقوق العينية والتنقيحات الواردة عليها - علي كحلون : مجلة الحقوق العينينة : معلق عليها".

لقد اعتبر الفصل 44 م.ح.ع أن حسن النية تفترض وجود شبهة حق بين الأطراف المتعاملة كأن يشتري شخص مال غيره من بائع لا يملك، وهو غير عالم بذلك، أي أن هذا المشتري لم تتوفر فيه مواصفات الخديعة لذلك ذكر المشرع أن الحائز بشبهة هو الحائز بوجه لا يعلم عيبه. لذلك أسس المشرع على هذا المبدأ مؤسسة قانونية خاصة بهذا الغير حسن النية وهو حائز العقار عن حسن نية، هذا الحائز الذي نظم أحكامه الفصل 46 م.ح.ع يتمتع بمدة أقل لفترة الحيازة وهي عشرة سنوات حتى يصبح مالكا لعقار ليس لدى ملكه ولا على ملك ما فوت له فيه، وإنما ميزة هذا الغير أنه لم يكن مخادعا ولا متواطئا مع البائع بل كان تصرفه سليما وطيبا، لذلك كان حريا بالحماية.

ومن هذا المنطلق كانت فلسفة المشرع في هذا المستوى واضحة بما يعني السعي إلى حماية هذا الغير، وبالتالي كانت مؤسسة الشهر العيني إحدى أهم هذه المؤسسات الحمائية، ومنه كان الغير حسن النية هو كل ما تحصل على حق اعتقد أنه شرعي وليس كل من كان عالما بالعيب لكنه أقدم على الحصول على ذلك الحق المعيب، هذا إذن ما استوجب الأخذ به كتعريف للغير حسن النية وبالاعتماد على مجلة الحقوق العينية، بيد أن عدم حصول العلم بالعيب أو حصول العلم به يبقى أمرا غامضا لأنه يتصل مباشرة بنفسية المعني بالأمر ودوافعه الشعورية، وعليه كان لزاما اعتماد مقياسا موضوعيا يمكن أن يهتدي به القضاء لتحديد وجود حسن النية من عدم وجودها وبالتالي اعتبار أمر الحماية واجب أو غير واجب.

في الواقع فإن صيغة الفصل 305 م.ح.ع قديم لم تكن تسمح بإيجاد طريقة غير التي توصل إليها فقه القضاء عن علم الغير بالعيب أو تواطئه مع معاقده من عدمه وذلك بالرجوع إلى استقراء الوقائع والملابسات والعلم الحاصل من شهود الواقعة وبينتها، وهو شيء يرجعنا إلى وضع مؤسسات الشهر العيني تحت طائلة قواعد القانون المدني أي الرجوع إلى نقطة البداية، وكنا قد بينا مساوئ هذه الطريقة في مضوع سابق من هذا البحث.

3-المفهوم القانوني لحسن النية طبق الصيغة الجديدة :

لقد مكن المشرع صلب لصيغة الجديدة للفصل 305 م.ح.ع من إيجاد آلية جديدة في تحديد وجود حسن النية من عدمه وذلك بخلق عنصر إسناد واضح الدلاة في ذلك وهو الاعتماد المطلق على بيانات السجل العقاري فقط، وعليه لم تعد وسائل التحديد في ذلك وسائل مطلقة وموكولة لاجتهاد المحكمة في استقرائها بل أصبحت في نطاق وسائل خاصة وتقنية غير قابلة لا للاجتهاد ولا للتأويل، فبيانات السجل العقاري وحدها هي موضع الاعتماد.

ونتيجة لذلك لا يمكن للمحكمة أن تبحث عن نية الغير وسلامتها في إطار خارجي بل عليها أن تقرر ذلك انطلاقا من محيط السجل العقاري، ونتيجة لذلك فإن النظر إلى نية المشتري الثاني في وجود تواطئ من عدمه أو علمه بسبق البيع من عدمه لا يكون له تأثير بالمرة على طبيعة نيته طالما أن تصرفه كان مرتبطا أساسا بما هو مدون بالسجل العقاري لأن المرجع الوحيد المعتمد في ذلك هو بيانات السجل العقاري فطالما كان المشتري الثاني قد تصرف حال وجود البائع مدرجا بالسجل العقاري بالرغم من سبق بيعه فإن شرائه قابل للإدراج لأسبقيته في التقديم للشهر وهو غير قابل للإبطال لأن البيع قد تم طبق بيانات السجل العقاري واحتراما لشروطه.

هذا الرأي يجعل للشهر العيني جدية وصحة في حماية واستقرار الملكية بضمان حسن التعامل عليها اقتصاديا ولو أن ذلك قد يصر بمصالح الأفراد، وعليه وجب التوضيح أن استحقاق الغير لأسبقية الترسيم يعطيه في النهاية حماية استحقاقية تجاه المشتري، ولكن لا يمنع ذلك من أن يتمتع هذا الأخير من طلب غرم الضرر والتعويض من الطرفين معا، فحماية الغير حسن النية هي حماية عقارية استحقاقية فحسب وليست حماية قانونية مطلقة، وهذا التفريق بين حماية استحقاق الملكية وضمان استحقاق التعويض يعتبر سمة من سمات القانون العقاري ومبدأ من مبادئه " من ذلك نجد أحكام الفصل 337 م.ح.ع الذي لا يخول إمكانية استرجاع العقار المحكوم فيه بالتسجيل خطأ أو طلب استرجاع أي حق تم ترسيمه خطأ بل لا يمكن إلا طلب غرم الضرر.

نفس المبدأ معتمد أيضا في ميدان استقصاء أراضي ملك الدولة الخاص، طبق أحكام الأمر العلي المؤرخ في 18 جوان 1918 وتحديدا الفصل 12 منه الذي يخول حق المطالبة لغرم الضرر دون الرجوع على الاستحقاق بعد انقضاء أجل عشرة سنوات من تاريخ صدور أمر المصادقة على أعمال الاستقصاء".

ومن الدلائل التي تدفع إلى الأخذ بهذا الرأي، أن المشرع عندما رام إدماج مبدأ الأثر المنشئ للترسيم في نطاق المنظومة العقارية عند تحويره للفصل 305 م.ح.ع غير حينها من صيغة الفصل المذكور بحيث أصبح مبدأ الأثر المنشئ للترسيم مقترنا بشرط الاعتماد على بيانات الشهر في تحديد حسن النية من عدمه، وهذا الأمر منطقي جدا لأن مبدأ الأثر المنشئ للترسيم لا يمكن أن ينجح إلا إذا اعتمدنا على بيانات السجل العقاري لأن هذا يفترض ذلك.

ومع ذلك يبقى التساؤل واردا حول الوسائل الممكن اعتمادها لبيان وإثبات حسن النية منة عدمه؟

فإذا كان الأمر يفضي عند النظرية الأولى إلى تولي القاضي استقراء القرائن والوقائع والملابسات لكي نتأكد من وجود سوء النية من عدمه على اعتبار أن حسن النية تمثل قرينة ولا تقضي الإثبات، فإن الأمر بعد تنقيح الفصل 305 م.ح.ع لا يثقل كاهل القاضي في شيء إذ يكفي الاطلاع على بيانات الرسم للتأكد من حسن النية أو نفيها.

ومن وسائل إثبات ذلك وجود أي قيد من القيود الاحتياطية أو أي ترسيم من الترسيمات التي تثبت سبق الترسيم أو الأخذ بوسائل الاحتياط فيه.